skip to Main Content

الأمراض النّفسيّة وموقفنا منها

كلّما اقتربت من النّاس وهمومهم ومشاكلهم وجدت أنّ الأمراض النفسيّة في ازدياد مستمرّ. والمؤسف في الموضوع أنّ المجتمع ما زال ينظر بحذر إلى المرض النّفسيّ. وبينما يجد المرضى الآخرون مَن يُساندهم، لا يجد المرضى النّفسيّون مَن يفهمهم أو يساعدهم، ممّا يقودهم إلى المزيد من الشّعور بالوحدة والانعزال والألم. ولا يزال هناك الكثير من المفاهيم الخاطئة الّتي يتخبّط بها مجتمعنا من دون أن يتمكّن من التّحرّر منها، فتأثير السّنين لا يزول بلحظة. وما كان يُعتبر Taboo في الماضي القريب لن يصبح موضوعًا سهلاً بين لحظة وأخرى.

أسباب سوء الفهم

هناك أسباب عديدة لعدم تفهّم النّاس وضع المرضى النّفسيّين. وقد يفيدنا أن نستعرضها واحدة واحدة علّنا نتحاشاها، فنسير إلى حالة أكثر إنسانيّة تتعاطف مع المريض وتُساعده.

الجهل. لا يزال في بلادنا جهل كثير في موضوع الأمراض النّفسيّة، مع أنّ الأمر في تحسّن مستمرّ. فمحطّات التّلفزة كلّها، من دون استثناء، تتسابق في استقبال أطبّاء وأخصّائيّين في علم النّفس والأمراض العصبيّة، وهذا أمر جيّد. لكن لماذا هذا الجهل؟ قد يعود الأمر إلى صعوبة فهم طبيعة هذه الأمراض، وبخاصّة أنّ ظاهرها نفسيّ وغير مادّيّ، ولكون النّفس البشريّة معقدّة جدًّا بسبب تداخل الكثير من المؤثّرات.

النّكران. كمّ مرّة سمعنا أشخاصًا متعلّمين، لديهم ثقافة واسعة ولهم مكانتهم في المجتمع، ينكرون وجود الأمراض العصبيّة ويعتبرونها مجرّد مزاج وحالة عرضيّة قابلة للسّيطرة! فالشّخص “المريض”، بالنسبة لهؤلاء، هو “غنّوج” يختبئ خلف الأمر ليبرّر أخطاءه وضعفه. قد يصحّ هذا الأمر أحيانًا. لكن عندما يتكلّم أحدهم عن نفسه فهو يعبّر للآخرين عن وجعه وألمه متوقّعًا التّفهّم والحنان، لا الاستهزاء والنّكران.

التّعيير. هناك أشخاص يعترفون بوجود هذه الأمراض بالمبدأ، لكن عندما يشاركهم أحدهم مرضه يُشعرونه بالضّعف والخطأ وينصحونه بترك الأدوية حالاً حتّى “لا يعتاد عليها أو يُدمن عليها”. وقد يُزايدون عليه في سرد بطولاتهم في مواجهة المصاعب، متجاهلين قدرة كلّ إنسان، والّتي تختلف من شخص لآخر، على تحمّل المصاعب والضغوطات. هذا يفسّر لنا لماذا يُسرع الشّخص المريض إلى ترك دوائه بتهوّر حالما يشعر بتحسّن. فيرمي الأدوية جانبًا ويتوقّف عن تناولها من دون استشارة الطّبيب، لكي يتخلّص من “العار” ويستعيد ثقته بنفسه من دون أن ينتبه أنّه بذلك يعرّض نفسه لأذى مضاعف.

الإيمان. هناك أيضًا، وبخاصّة في عالم الإيمان والكنيسة، مَن لا يعترف بهذه الأمراض بل يعتبرها خطيّة وضعف وقلّة إيمان، فينصح المريض بترك دواءه حالاّ والاتّكال على الله واللّجوء إلى الصّلاة! بينما لو أصيب المريض نفسه بارتفاع ضغط الدّم أو القرحة أو الذّبحة القلبيّة جرّاء الحزن والضغط… فلا يردّ السّبب إلى قلّة الإيمان، بل يتقبّل الأمر ببساطة ويلحّ على المريض أن يتعالج. نعم، إنّ أساس كلّ الأمراض هي الخطيّة، فلو لم يخطىء أبوينا الأوّلين لما عرفنا المرض والموت. أمّا وقد دخلت الخطيّة الجنس البشريّ أصبحت الأمراض واقعًا لا يمكننا تجاهله. وهذا يشمل كلّ الأمراض من دون استثناء. أذكر هنا حالة معيّنة عندما أقنع الكاهن المريض بأنّ علاجه النّفسيّ يتعارض مع إيمانه، وبالتّالي فإنّ تناوله يعتبر خطيّة. فترك المريض كلّ أدويته بإخلاص. ولم تمرّ فترة قصيرة حتّى انهار واحتاج إلى علاج أقوى وأطول ليستعيد عافيته!

الكبرياء. نُصح أحد الأشخاص الّذين كانوا يعانون من أزمة حادّة تعذّبه، وتعذّب كلّ أفراد العائلة، باستشارة طبيب، لأنّ علاجه متوفّر. فغضب قائلاً: “أنا؟ أنا آخذ دواء. وهل أنا مريض؟ أنتم المرضى ولست أنا. قد أقتل نفسي قبل أن آخذ أيّ دواء”. لقد عيّر هذا الرّجل المرضى والأدوية لسنين طويلة، وزايد عليهم بالقوّة لدرجة أنّه عندما احتاج أن يأخذ دواء لم تسمح له كبرياءه بذلك. كم هي عدد البيوت الّتي كان يمكن الحفاظ عليها بقليل من التّواضع وأخذ العلاج اللاّزم؟

المعالجات البديلة. يحتاج الإنسان إلى الخلاص من الحالة الّتي يعاني منها، لذا تبدأ النّصائح من حوله بإعطائه بدائل للشّفاء. “هذه عين”، “اذهب إلى مَن يرقي لك رقية”، “البس حجاب”، “ضع خيطًا حول معصمك”…كلّها تصبح علميّة ومقبولة أكثر من الطّبيب والدّواء! ناهيك عن الهوس عند بعض الأشخاص باعتبار كلّ حالة حزن وكآبة أنّها مرض – وهذا خطأ آخر يقع فيه النّاس – فيصفون الأدوية لبعضهم بعضًا.

آثار عدم المعالجة

وإذ قد يتفهّم بعضهم المرض النّفسيّ، إلاّ أنّه لا يزال يحتاج إلى التّحرّك العمليّ نحو معالجة المريض قبل أن يستفحل المرض فيه ويزداد خطورة. أمّا عدم العلاج فيُسبّب العوارض التّالية:

– عذاب مستمرّ للمريض ونوعيّة حياة سيّئة جدًّا.

– بيوت مدمّرة وأجواء جهنميّة وطلاقات.

– أولاد معنّفون يربون بالخوف والقلق والإهمال. وبالتّالي، عرضة لأن يصبحوا هم أنفسهم مرضى نفسيّين بحاجة إلى علاج.

– انتحارات ونتائج وخيمة في الكثير من الحالات.

– علاقات متشنّجة مع الآخرين، وعدم انتاجيّة سليمة قد تؤدّي إلى الطّرد من العمل والنّبذ من الأصدقاء.

– قرارات خاطئة وغير متّزنة تقود إلى المزيد من المشاكل والتّعاسة والاضطراب.

– إضاعة الأيّام والسّنين سدى بينما كان يمكن قضاؤها بسلام وسعادة.

إنّ الانسان هو جسد ونفس وروح. وكما أنّ كلّ إنسان مميّز ومختلف بجيناته وتركيبته وخلفيّته واختباراته عن الآخر، كذلك هو مختلف أيضًا بردود فعله. فتجد أحدهم تحت الضغط الشّديد والتّجربة العنيفة، يرتفع ضغط دمه فجأة فيضطرّ إلى تناول دواء للضّغط كلّ حياته، وآخر يرتفع معه السّكّري، وآخر يصاب بالصّداع الشّديد وآخر يصاب بالعصبيّة والانهيار. كلّهم طبيعيّون ولكنّ كلّ واحد يحتاج إلى علاج مختلف عن الآخر.

نصائح للمريض

يجب على كلّ إنسان أن يهتمّ بروحه ونفسه وجسده كما يوصي الكتاب. لأنّ هذا من الإيمان، والرّبّ ائتمننا على حياتنا. فهذه إحدى الوزنات الّتي أعطانا إيّاها. و”كلّ مَن يعرف أن يعمل حسنًا ولا يعمل فذلك يُحسَب له خطيّة.” أمّا نصائحي للمريض فهي:

– اقبل كلّ ما يحصل معك بواقعيّة ونضج، وبروح الإيمان والتّسليم، إذ التّجارب بشريّة “والله لا يدعكم تُجرّبون فوق ما تستطيعون بل سيجعل مع التّجربة أيضًا المنفذ لتستطيعوا أن تحتملوا”. المهمّ أن نقبل هذا المنفَذ.

– اشكر الله الّذي سمح بوجود الأدوية اللاّزمة لهذه الأمراض فـَ “كلّ عطيّة صالحة وكلّ موهبة تامّة هي من فوق من عند أبي الأنوار”.

– اهتمّ بحياتك الرّوحيّة وكن قريبًا جدًّا من الرّبّ وكلمته. “عند كثرة همومي في داخلي، تعزياتك يا ربّ تلذّذ نفسي”.

– استخدم ما يحدث معك لتساعد غيرك على تقبّل التّجارب المماثلة. “عزّوا بعضكم بعضًا.”

– تواضع وخذ علاجك كما يجب. فالكبرياء والعجرفة لن يوصلانك إلاّ الى دمار نفسك كما يقول الكتاب: “قبل الكسْر الكِبرِياء، وقبل السّقوط تشامخ الرّوح”.

– لا تُضيّع الأيّام والسّنين في المماطلة، بل اسع لتعيش نوعيّة حياة جيّدة لك، لعائلتك ولكلّ المحيطين بك.

رسالة الكلمة – العدد 20 (www.risalatalkalima.com)

ندى طرابلسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top
×Close search
Search